الدفتر الأول

7- (23-27) القديسة فوستينا تختبر «الليل المظلم» طوال فترة سنوات الإبتداء

23- بدأ الحزن يلقي ظلّه على نفسي نحو آخر أول سنة من حياة الإبتداء. ولم أشعر بتعزية في الصلاة. وكان التأمّل يتطلّب مني جهدًا كبيرًا وبدأ الخوف يراودني في نفسي. وكلّما نظرت في أعماقي لا أجد إلا تعاسة متفاقمة. [ولكن] كنت أرى بوضوح قداسة الله. فلم أجرؤ أن أرفع عيني نحوه. بل اعتبرت نفسي غبارًا تحت قدميه ورجوت رحمته. وبقيت على هذه الحال مدّة ستّة أشهر تقريبًا. شجّعتني أمّنا المديرة المحبوبة [ماري جوزيف] في هذه الأوقات الصعبة. غير أن الألم كان يزداد تفاقمًا. اقتربت سنة الإبتداء الثانية. كانت نفسي ترتعش كل مرة كنت أفكر فيها باقتراب موعد تقديم نذوراتي. ولم أكن أفهم ما أقرأ، ولم أستطع التأمل وخيِّل إلى أن صلاتي تزعج الله وان اقترابي من المناولة المقدّسة تُغيظه أكثر. ولكن رغم ذلك لم يدعني معرّفي [الأب ثيودور] أن أهمل أية مناولة. وكان الله يعمل بشكل غريب في نفسي. ولم أفهم شيئًا ممّا كان يقوله لي معرّفي. وأبسط حقائق الإيمان أضحت غامضة لديّ. وكانت نفسي قلقة عاجزة أن تجد الطمأنينة في أي مكان.

سيطر عليّ شعور عميق أن الله، إلى حد ما، قد نبذني. فاخترقت هذه الفكرة صميم نفسي. وفي غمرة آلامي بدأت نفسي تختبر نزاع الموت. أردت أن أموت ولكن لم أستطع. وراودتني فكرة: ولِما الصراع في سبيل الفضائل؟ ولِما التقشّف طالما يغيظ الله؟ ولمّا أطلعت مديرة المبتدئات بالأمر لقيت هذا الجواب: «أدركي، يا أختي، أن الله اختارك للقداسة الكبرى. هذا دليل على أن الله يريدك قريبة منه جدًّا في السماء، ثقي جيّدًا بالرب يسوع».

إن عذاب الهالكين الحقيقي هو تلك الفكرة المخيفة أن الله ينبذهم. فلجأت إلى جراحات يسوع وردّدت كلمات الثقة. ولكن تحوّلت هذه الكلمات بالذات إلى عذاب أكبر. ذهبت أمام القربان الأقدس وأخذت أتحدّث إلى يسوع «يا يسوع، أنت قلت إن الأمّ قد تنسى ابنها قبل أن ينسى الله خلائقه، حتى ولو نسيت الأم ولدها فأنا، الله لن أنسى خليقتي. يا يسوع، أتدرك كم تتعذّب نفسي؟ تنازل واسمع تنهدات ابنتك المتألمة. إني أثق بك، يا الله، لأن الأرض والسماء تزولان، أما كلمتك فتدوم إلى الأبد». غير أنني لم أجد برهة من الارتياح.

24- في أحد الأيام، حين استيقظت من النوم، وبينما كنت أستحضر الله، شعرت فجأة بيأس يسيطر عليّ. ظلام كثيف غمر نفسي. فجاهدت قدر مستطاعي حتى وقت الظهر. بعد الظهر بدأ يعتريني، بالحقيقة، خوف مميت وبدأت قواي الجسدية تنهار. أسرعت عائدة إلى غرفتي وسجدت على ركبتي أمام الصليب وبدأت أصرخ طالبة الرحمة، فلم يسمع يسوع صراخي. وفارقتني كل قواي الجسدية. وقعت على الأرض واليأس يغمر كل نفسي وسيطر عليّ عذاب لا يختلف أبدًا عن عذابات جهنم. وبقيت على هذه الحال طيلة ربع ساعة. أردت أن أذهب وأرى المديرة ولكن لم استطع ذلك بسبب ضعفي المتزايد. حاولت الصراخ ولكن صوتي اختفى. لحسن الحظ، دخلت غرفتي إحدى الأخوات [المبتدئة، الأخت بلاسيدا بوتيرال Placida Putyral]. أخبرت فورًا المديرة بما حصل. جاءت الأم على الحال. وفورًا دخلت الغرفة وقالت: «قومي، إنهضي باسم الطاعة». وفجأة داخلني شيء من القوّة فنهضت من الأرض ووقفت قرب الأم المديرة. أخذت تشرح لي بلطف أن الله قد أرسل لي هذه التجربة قائلة: «ثقي دائمًا بالله فهو دائمًا أبونا رغم الصعوبات التي يرسلها لنا».

عدتُ إلى واجباتي كما العائد من القبر وكل حواسي ونفسي مشبعة بما اختبرت. وفي صلاة المساء عادت نفسي تنازع في عتمة مخيفة. وشعرت أنني في قبضة الله العادل وأنني موضوع غضبه. قلتُ لله في هذه الأوقات الصعبة «يا يسوع، يا من شبّهتَ نفسك في الإنجيل بأم حنونة، إني أثق بكلامك لأنك أنت هو الحق والحياة. إني أثق بك يا يسوع، رغم كل شيء، في وجه كل شعور داخلي يقف ضدّ الرجاء. اصنع مني ما تشاء. فلن أتركك أبدًا لأنّك أنت كل حياتي». لا يستطيع أن يفهم شدّة عذاب النفس هذا إلا من عاش مثل تلك الأوقات.

25- في اليل، زارتني أم الله، حامله الطفل على ذراعيها. ملأ الفرح نفسي وقلت: «مريم، أمي، هل تعلمين كم تعذبت؟» فأجابتني أم الله: «نعم أعلم كم تتعذبين لكن لا تخافي، إنني أشاطرك عذابك وسأشاطرك دائماً إياه». فابتسمت بحراره واختفتُ. ومن جديد تدفقت في نفسي قوة وشجاعة كبيرة. ولكن لم يدم ذلك إلا يوماً واحداً. فبدا وكأن الجحيم يتآمر ضدي. وأخذ كره رهيب طريقه إلى نفسي، إلى كلّ ما هو مقدّس وإلهي. وبدا وكأن هذه العذابات الروحية ستكون من نصيبي مدى ما تبقى من الحياة، فاتجهت نحو القربان المقدّس وقلت ليسوع:«يا يسوع عروسي، ألا ترى أن نفسي تموت توقاً إليك. فلما تختبئ عن قلب يحبك بهذا الصدق؟ أغفر لي يا يسوع ولتحلّ فيّ مشيئتك المقدّسة. سأتعذّب صامتة كيمامة، دون شك ولن أسمح لقلبي أن يقلق، أن يتأفّف مرّة حزناً».

26- أوشكت مرحلة الإبتداء أن تنتهي، ولم يقلّ عذابي، وعفاني ضعفي الجسدي من كل التمارين الروحية [في الجمعية] مماّ يعني استبدالها بصلوات استعطافيه قصيرة. يوم الجمعه العظيمة 6 نيسان 1928 قبض يسوع على قلبي بلهيب محبته، في صلاة العبادة المسائية. وفجأة استولى عليّ الحضور الإلهيّ فنسيت كل شيء آخر. وأفهمني المسيح كم تألم من اجلي. دام ذلك وقتاً قصيراً. شوق عميق وتوق إلى الله . 

27- في النذور الأولى – الإعلان الأول للنذور المؤبّدة، 30 نيسان 1928 إعتراني شوق حارّ أن أفرغ ذاتي لله في محبة مضطرمة. لكن محبة لا يلاحظها أحد حتى أقرب الأخوات إليّ. 

غير أن الضباب عاد، بعد النذورات، يغطّي نفسي لمدة سنة تقريباً . بينما كنت أصلّي مرّة، تسرّب يسوع إلى نفسي فاضمحلّ الضباب وسمعت هذه الكلمات في داخلي:«أنت فرحي، أنت سعادة قلبي». وشعرت منذ ذالك الحين حضور الثالوث المقدّس في قلبي، في كل داخلي. شعرت آنذاك أن النور الإلهيّ يغمرني واتّحدت نفسي اتحاداً حميماً بالله كاتّحاد طفل مع والده المحبّ.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق