الدفتر الثاني

74- آه!، لو تستمع النفوس فقط إلى صوتي عندما أتحدّث إليها في أعماق قلبها، لبَلغت إلى قمّة القداسة في وقت قصير

ليلة ميلاد 1935

574- استغرقَتْ روحي بالله منذ الصباح الباكر. سيطَرَ حضوره على كل حياتي. عند المساء وقبل العشاء ذهبتُ إلى الكنيسة لدقيقة واحدة لأصلّي إلى القربان، على أقدام يسوع، على نيّة الذين هم بعيدين ويحبّهم يسوع محبة كبرى والذين أنا مُدينة لهم كثيراً. وبينما كنت أصلي مع شخص آخر [ربما الأب سوبوكو] سمعتُ في داخلي هذه الكلمات: «إنّ قلبه هو سمائي على الأرض». وبينما أنا أغادر الكنيسة، غمرتني قدرة الله وأدركتُ كم هو يحبّنا. حبّذا لو استطاع الناس، أقلّه، إدراك وفهم هذه الأشياء.

يوم عيد الميلاد

575- قداس نصف الليل، وقت الذبيحة المقدسة، رأيتُ الطفل يسوع في غاية الجمال، باسطاً بفرح يديه الصغيرتين نحوي، وبعد المناولة سمعتُ هذه الكلمات: «إنني دائماً في قلبِكِ، وليس فقط عندما تقبلينني في المناولة المقدسة بل دائماً». أمضيتُ هذه الأعياد بفرح كبير.

576- أيها الثالوث الأقدس، الإله الأزلي، إنّ روحي هي غارقة في جمالك. ليست الأجيال شيئاً في نظرك. فأنت لا تتبدّل أبداً. كم هي جليلة عظمتك. يا يسوع لماذا تخبّئ عظمتك؟ لماذا غادرتَ عرشَكَ السماوي لتسكن بيننا؟ فأجابني الرب: «يا ابنتي، إنّ الحب أتى بي إلى هنا وإنّ الحب يُبقيني هنا. لو تعرفين يا ابنتي، ما هو الاستحقاق الكبير والمكافأة التي يربحها عمل حبٍّ صافٍ لي لكنتِ تموتين فرحاً. أقول هذا حتى تستطيعي أن تتَّحِدي بي دون انقطاع من خلال الحب الذي هو هدف حياة نفسك. هذا هو فعل إرادة. اعلمي أنّ النفس الطاهرة هي متواضعة. عندما تتواضعين وتفرغين ذاتك أمام عظمتي، سأرافقكِ بنعَمي وأرفَعُكِ لقدرتي».

577- لمّا قال لي معرّفي مرة أن أتلو صلاة: «المجد لله في العلى» بمثابة كفّارة، أمضيتُ وقتاً طويلاً وأنا أردّدها مرات عديدة، دون أن أنهيها لأنّ روحي اتّحدت بالله ولم أستطع أن أركّز على الصلاة. غالباً ما تغمرني عظمة الله فأستغرقُ فيه، لا شعوريًّا، من خلال الحب، ولا أعلم حينئذ ما يحدث حولي. لمّا أخبرتُ معرّفي أنّ هذه الصلاة تأخذ مني غالباً وقتاً طويلاً دون أن أتمّمها، قال لي أن أتلوها فوراً في كرسي الاعتراف. غير أنّ روحي استغرقت في الله، ورغم كل جهودي، لم أستطع أن أفكّر كما أريد. حينئذ قال لي المعرّف: «ردّدي بعدي إذا أردتِ». ردَّدتُ كل كلمة وبينما كنتُ ألفظُ كل كلمة تركّزت روحي على شخص [يسوع] الذي كنتُ أسمّيه.

578- في إحدى المناسبات قال لي يسوع شيئاً يتعلّق بأحد الكهنة [ربما الأب سوبوكو] وهو أنّ هذه السنين الحالية هي زينة حياته الكهنوتية. تبدو أيام العذاب دائماً أطول من غيرها ولكن ستمرّ أيضاً ولو ببطء وكأنها تسير إلى الوراء. غير أنّ النهاية هي قريبة وسيكون فرح لا يوصف ولا ينتهي: الأبدية! من يستطيع فهم هذه الكلمة من لَدُنْكَ أيها الإله الذي لا يُدرَك، هذه الكلمة، الأبدية.

579- أعرِفُ أنّ النِّعَم التي يُغدِقُها الله يخص بها بعض النفوس دون سواها وتملأني هذه المعرفة فرحاً. أفرحُ دائماً بخير نفوس الآخرين كما لو كان لي.

580- قال لي الرب في إحدى المناسبات: «إنّ النقائص الصغيرة للنفوس المختارة تجرحُني أكثر من خطايا الذين يعيشون في العالم». تألّمْتُ لأنّ النفوس المختارة تعذّب يسوع. وقال لي يسوع أيضاً: «ليست هذه النقائص الصغيرة كل شيء. سأكشفُ لكِ عن سرّ قلبي: لمّا تعذّبني النفوس المختارة. إنّ نكران الجميل، من قبل [مثل هذه] النفوس، ردًّا على نِعَمي الغزيرة، هو غذاء قلبي المتواصل. إنّ حبّهم هو فاتر ولا أستطيع تحمّل ذلك. تُجبرُني تلك النفوس أن أنبذها. إنّ غير نفوس لا تثق بصلاحي ولا ترغب في اختبار مودّتي العذبة في قلبها، وتفتّش عني بعيداً، فلا تجدني. هذا الشك بصلاحي يؤلمني كثيراً. إذا لم يُقنعكِ موتي بمحبّتي، فما يُقنعُكِ؟ غالباً ما تجرحني نفسٌ حتى الموت ولا من يعزّيني. تستعمل نِعَمي لإهانتي. تحتقر تلك النفوس نِعَمي كما تحتقر براهين حبي على السّواء. لا تريد أن تسمع ندائي فتسير نحو الجحيم. إنّ خسارة هذه النفوس تغرقني في ألَمٍ مُميت. رغم أنني إله فلا أستطيع مساعدة مثل هذه النفوس لأنها تحتقرُني. بما أنها حرّة فبإمكانها أن تزدريني أو تحبّني. أنت القَيِّمة على نعمَتي، حدّثي العالم كله عن صلاحي فهكذا تعزّين قلبي.

581- سأقولُ لكِ أكثر فأكثر عندما تتحدّثين إليّ من أعماق قلبِكِ، حيث لا يستطيع أحدٌ أن يُزعجَ أعمالي، وحيث أستريحُ كما في حديقة مصوّنة».

582- إنّ داخل نفسي هو أشبه بعالم واسع ورائع حيث يعيش الله وأنا. لا يسمح لأحد هنا سوى الله. في بدء هذه الحياة مع الله سيطرَ عليّ الذهول والخوف. لقد أعماني بهاؤه وظننتُ، في ذلك الوقت، أنّه ليس في قلبي، بينما كان يعملُ في نفسي. يزداد حبي نقاوة وقوة وأنّ الرب قاد إرادتي إلى اتحاد وثيق مع إرادته المقدسة. لا يستطيع أحدٌ أن يفهم ما أختَبِرُ في قصر نفسي الرائع حيث يسكن حبيبي دون انقطاع. ما مِن شيء خارجي يُعيقُ اتحادي مع الله. ولو استعملتُ أكثر الكلمات قوة لم أستطع أن أعبّر ولو قليلاً كيف تستمتع نفسي بالسعادة وبحب نقي لا يوصف، طاهر مثل النبع من حيث يتدفّق، أي الله بالذات. يسيطر الله على روحي إلى حدّ أشعر به جسديًّا. ويشترك الجسم في هذه السعادة. رغم أنّ لمسات الله للنفس الواحدة قد تتنوّع فهي، على كل حال، صادرة من نبع واحد.

583- رأيتُ يسوع مرة عطشاناً ومغمى عليه وقال لي: «أنا عطشان». ولمّا أعطيتُهُ ماءً أخذه ولكن لم يشربه بل توارى حالاً. كان لباسه شبيهاً باللباس في وقت عذابه.

584- «لمّا تتأمّلين بما أقوله لكِ في أعماق قلبِكِ تستفيدين أكثر مما لو قرأتِ كتباً عديدة. آه!، لو تستمع النفوس فقط إلى صوتي عندما أتحدّث إليها في أعماق قلبها، لبَلغت إلى قمّة القداسة في وقت قصير».

585- 8 كانون الثاني 1936. لمّا ذهبتُ لأرى رئيس الأساقفة جلبريزكزفسكي، قلتُ له إنّ يسوع يطلبُ إليّ أن أسأل رحمة الله على العالم وأنه ستؤسّس جمعية رهبانية تتوسّل إلى الله من أجل العالم. وطلبتُ منه الإذن لأحقّق كل ما طلبه إليّ يسوع. أجابني رئيس الأساقفة بهذه الكلمات: «بما يتعلّق بالصلاة، فإني آذن لكِ حتى وأشجعكِ، يا أختي، أن تصلّي قدر المستطاع من أجل العالم وأن تسألي له رحمة الله، فنحن بحاجة إلى تلك الرحمة. وأفترضُ أنّ معرِّفَكِ لا يمنعكِ حتماً أن تصلّي على هذه النيّة. ولكن بما يتعلّق بالجمعية، انتظري قليلاً، يا أختي، حتى تتدبّر الأمور بطريقة أفضل. إنّ هذه القضية هي جيدة بحدّ ذاتها، ولكن لا حاجة للتسرّع، فإذا كانت تلك إرادة الله فستُحَقَّقُ عاجلاً أو آجلاً. ولما لا؟ هناك أنواع عديدة من الجمعيات وستؤسّس هذه الجمعية أيضاً إذا كان الله يريدُها. فاطمئنّي تماماً. فالرب يسوع يستطيع أن يعمل كل شيء. اسعي إلى اتحاد وثيق مع الله ولا تيأسي». ملأتني هذه الكلمات بفرح كبير.

586- لمّا غادرتُ مقر رئيس الأساقفة سمعتُ الكلمات التالية في نفسي: «بغية تثبيت روحكِ، سأكلِّمُكِ من خلال ممثّليّ حسبما طلبتُ إليكِ، ولكن اعلمي أنّ التجاوب لن يكون دائماً وفق ما أطلب. سيعارضونكِ في أمور عديدة وستظهر نعمَتي بِكِ من خلال معارضتهم، فتتأكّدين حينئذ أنّ هذا تدبيري. ولكن أنتِ لا تخافي شيئاً. أنا دائماً معَكِ. واعلمي هذا أيضاً، يا ابنتي، ستصنعُ كل الخلائق إرادتي سواء أدرَكَتْ ذلك أم لا، وسواء شاءت أو أَبَتْ».

587- رأيتُ مرة يسوع في عظمة جلالته وتحدَّثَ إليّ بهذه الكلمات: «يا ابنتي، إذا أردتُ، أخلُقُ في هذه اللحظة عالماً جديداً أكثر جمالاً من الأول وستعيشين فيه طوال ما تبقّى من حياتِكِ». فأجبتُ: «لا أريدُ عوالم، أريدُكَ، أنتَ يا يسوع. أريدُ أن أحبّك بنفس الحب الذي تكنّه لي. أطلبُ إليكَ شيئاً واحداً أن تجعل قلبي يحبّك. أتعجَّبُ كثيراً ممّا تعرضُهُ عليّ يا يسوع. ما هي تلك العوالم بالنسبة لي؟ أنت تعلمُ أنّ قلبي، يا يسوع، يموتُ توقاً إليك. كل شيء سواك لا يعنيني بشيء». في ذلك الوقت، لم أعد أرى شيئاً ولكن استولَتْ على نفسي قوة غريبة والْتَهَبَتْ نار غريبة في قلبي ودخلْتُ بشيء من النزاع لأجله. حينئذ سمعتُ هذه الكلمات: «لم أتّحد بأية نفس اتحاداً وثيقاً مثلما أتَّحدُ بِكِ وذلك بفضل تواضعك العميق وحبّك المتأجج».

588- في إحدى المناسبات سمعتُ هذه الكلمات في داخلي: «أعرفُ كل حركة من حركات قلبِكِ، اعلمي يا ابنتي، أنّ أية نظرة من نظراتك موجّهة إلى أحدٍ سواي تجرحُني أكثر من كل الخطايا التي يرتكبُها أي شخص آخر».

589- الحب يُبعد الخوف. منذ بدأتُ أن أحبّ الله بكل كياني وبكل قوة قلبي، غادرني الخوف. حتى ولو سمعتُ عن أكثر الأشياء رعباً عن عدالة الله، فلن أخافَهُ أبداً لأنني قد تعرَّفتُ إليه جيداً. الله هو محبّة وروحه هو سلام. أرى الآن أنّ أعمالي التي أنجزتُها بحبّ هي أكمل من الأعمال التي قمتُ بها بخوف. وضعتُ ثقتي بالله فلا أخافُ شيئاً. لقد سلَّمتُ نفسي إلى إرادته المقدسة فليصنع بي ما يشاء ولن أتخلّى عن حبّه.

590- عندما أقبلُ المناولة المقدسة أتوسَّلُ وأطلبُ إلى الله أن يشفي لساني حتى لا أتخلّف أبداً عن محبة قريبي.

591- يا يسوع أنت تعلم كم أتوق أن أختبئ حتى لا يعرفني أحد سوى قلبك العذب. أريد أن أكون بنفسجة صغيرة مخبأة في الأعشاب، مجهولة في جنينة رائعة حيث تنبت الزنابق والورود الجميلة. إنّ الوردة الجميلة والزنبقة تُرى من بعيد، ولكن على من يريد أن يرى بنفسجة صغيرة، أن ينحني. ينتشر عطرها فقط في البعيد. آه! كم أكون سعيدة أن أختبئ هكذا. يا عروسي السماوي، إنّ زهرة قلبي وعطر حبي الطاهر هما لك. اجتذبتني إليك، يا يسوع، يزداد شوقي إليك تأجُّجاً بازدياد حبي لك.

592- تعلَّمتُ من قلب يسوع أنه يوجد داخل السماء ذاتها، سماء ثانية لا تدخلها إلاّ النفوس المختارة، إنّ السعادة التي تغمرُ بها النفوس هي أبعد من أن توصف. آه! يا إلهي، كيف أستطيع أن أصف ذلك ولو قليلاً. تتشرّب النفوس من ألوهيته وتتنقّل من بهاء إلى بهاء، في نور لا يتبدّل ولكن غير ممل أبداً، يتجدّد دائماً دون أن يتغير. أيها الثالوث الأقدس. عرّف النفوس إلى ذاتك.

593- يا يسوع، لا شيء أَفْيَد إلى النفس أكثر من الإذلال. يَكمُنُ سرّ السعادة في تحقير الذات، لمّا تدرك النفس أنها، بحدّ ذاتها، تعيسة وتافهة، وأنّ كل ما لديها من جودة هو هبة من لَدُنِ الله. عندما تدرك النفس أنها أُعطيَتْ كل شيء مجاناً، وأنّ الشيء الوحيد الذي تملكه من ذاتها هو مجرّد تعاستها، يتبيّن لها حينئذ أنّ كل ذلك يثبّتها في حالة متواصلة من السجود المتواضع أمام عظمة الله. وإنّ الله، وقد رأى النفس في هذه الاستعدادات، يتعقّبها بمراحمه. إذا ما النفس تابعت استغراق ذاتها أكثر فأكثر عمقاً في لجّة تعاستها وحاجاتها، فإنّ الله يستعمل كل قدرته ليرفعها. إذا ما وجدت نفسٌ سعيدة حقًّا على الأرض فلا تكون، بالواقع إلاّ النفس المتواضعة. إنّ محبة الذات، في بادئ الأمر، تتسبّب بكثير من الآلام ولكن بعدما تكون النفس قد جاهدت بشجاعة، فإنّ الله يعطيها من النور ما يمكّنها، على ضوئه، أن ترى أنّ كل شيء هو مليء بالتفاهة وخيبة الأمل. يسكن حينئذ الله وحده في قلبها. إنّ النفس المتواضعة لا تثق بذاتها بل تضع كل ثقتها بالله. يحمي الله النفس المتواضعة ويلجُ هو بذاته إلى أسرارها فتستقرّ النفس في سعادة لا تفوقها سعادة ولا يستطيع أحد إدراكها.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق