الدفتر الأول

26- (120-114) علاقة النفس مع الله واكتشافه من خلال الصمت و السكوت الداخلي

114- آه! كم هي عذبة الترانيم المتدفقة من نفس متألمة. تفرح كل السموات بمثل هذه النفس سيما عندما يختبرها الله ترنّم حزينة من توقها إليه. فائق هو جمالها لأن الله هو مصدره. تسير النفس في أدغال الحياة يجرّحها حبّ الله ولا تطأ الأرض إلا على قدم واحدة.

115- عندما تخرج النفس من تلك المِحن يزداد تواضعها عمقاً وطهارة نفسها عظمة. تزداد معرفتها، دونما حاجة الى تفكير، كما من قبل، فيما يجب ان تعمل في وقت معيّن وما يجب أن تتحاشاه. تشعر بلمسات النعمة الاكثر خفّة. وهي جدّ أمينة لله. تتعرّف الى الله من بعد وتفرح فيه دون انقطاع. تكتشف الله سريعاً في النفوس الأخرى وفي محيطها إجمالاً. لقد نقّى الله ذاته النفس. إن الله – وهو روح محض – يدخل النفس في حياة روحانية صافية.

حضّر أولاً الله بذاته، النفس وطهّرها، أي جعلها قادرة على الاتحاد الوثيق – معه. ان النفس وهي في حالة استراحة محبّة، تتحد روحياً بالله. تتحدّث الى الله دون أن تحتاج الى التعبير بواسطة الحواس. يملأها الله بنوره. إن العقل المستنير يرى بوضوح ويميّز درجات الحياة الروحيّة المتنوعة وتُدرك [حالتها] عندما يكون اتحادها بالله ناقصاً: حيث – تتشابك الإحساسات وتترابط مع العقل ارتباطاً خاصاً ورفيعاً، لكن بالحقيقة غير كامل. هناك ارتباط اكثر سمُوّاً وكمالاً مع الله، لا سيّما الارتباط العقلي. تتحرّر النفس هنا من الأوهام وروحانيتها هي اكثر نقاوة وعمقاً.

حينما تتجذّر الإحساسات في الحياة هناك خطر الوهم. ويجب ان تلعب الحكمة دوراً أكبر لدى النفس والمعرّف معاً. هناك اوقات يدخل الله النفس في حالة روحية صافية. فتتقلّص الإحساسات وتبدو مائتة. وتزداد النفس اقتراباً من الله فتحتجب في الالوهية. وتكتمل معرفتها وتتكامل لا مزاجياً كما من قبل، بل بشكل متواصل وثابت. فتبتهج بذلك. أريدُ أن أُضيف في الحديث عن اوقات التجارب هذه: على المعرّف ان يتحلّى بالصبر مع هذه النفس وعلى النفس أيضاً ان تتحلى بصبر أكبر مع ذاتها.

116- يا يسوع أنت تعلم ما تتحمّل نفسي عندما أتذكّر تلك الآلام. تعجّبت كيف أنّ الملائكة والقديسين يُمسكون سلامهم عنّا عند رؤية نفس تتعذّب هكذا، رغم أنهم يكنّون لنا محبّة خاصّة في مثل هذه الأوقات. تصرخ نفسي غالباً الى الله كطفل يصرخ ما أمكنه عالياً عندما يرى أمه تستر وجهها ولا يستطيع أن يعرفها. يا يسوع المجد والإكرام لك على امتحانات الحب هذه. عظيمة وغير مدركة هي رحمتك. كل ما تخطّطه لنفسي، يا رب، يفيض من رحمتك.

117- أذكر هنا أن على من يعيش مع شخص كهذا، لا ينبغي أن يضيف على آلامه آلاماً خارجية. بالواقع عندما يمتلئ كأس نفس، فكلّ نقطة تضيفها إليه، مهما كانت صغيرة، تطفح كأس المرارة. ومن هو المسؤول عن هذه النفس؟ فلنحترز أن لا نزيد في آلام الآخرين ونغيظ الله. إذا أدركت او اشتبهت الراهبات والرئيسات أنّ نفساً تمرّ في مثل هذه التجارب، ومع ذلك، زدن عليها آلاماً أخرى، يُخطئن خطأ فظيعاً وسيؤدّين حساباً أمام الله عن هذه النفس.

لا أعني هنا الحالات التي هي خطيئة بحدّ ذاتها بل الأمور التي ليست هي بخطيئة في مناسبات أخرى، بل تصبح خطيئة في هذا الظرف. فلننتبه ولا نضع ثقل خطيئة ضدّ مثل هذه النفس على ضميرنا. هذا نقص فظيع وشائع في الحياة الرهبانية، لا سيما عندما يرى أحد نفساً متألمة ويريد دائماً أن يزيد في آلامها. لا أقول أنّ الجميع يتصرّفون بهذا الشكل ولكن بعضهم. نطلق كلّ أنواع الأحكام بحريتنا ونرددها حين ينبغي أن نصمت.

118- إن اللسان هو عضو صغير ولكن ذو افعال كبيرة. إن الراهبة التي لا تحفظ الصمت لن تبلغ أبداً إلى القداسة. أي لن تصبح أبداً قديسة. فلا تغشنّ ذاتها. ما لم يكن الله يتكلّم بواسطتها، يجب عليها أن تصمت… ولكن كي نسمع صوت الله علينا ان نحافظ على سكون نفسنا ونصمت، لا صمتاً كئيباً، بل داخلياً، أي التأمل بالله. يمكن أن نتحدّث طويلاً دون أن نكسر الصمت ، كما بالعكس يمكن أن نتحدّث قليلاً ونحن نكسر الصمت بإصرار. آه! كم يتسبب انتهاك الصمت بأذى لا يُعوَّض. نتسبَّب بضرر لقريبنا ولكن بضرر أكبر لأنفسنا.

في رأيي وانطلاقاً من خبرتي، يجب أن نضع القانون المتعلّق بالصمت في الدرجة الاولى. ان الله لا يُعطي ذاته إلى نفس ثرثارة، مثل ذكر النحل قرب المباءة يطّنُ ولا يجني عسلاً. إن النفس الثرثارة هي فارغة في داخلها. تنقصها الفضائل الأساسية والألفة مع الله. وهذه الحالة لا تطال حياة داخلية عميقة تنعم بسلام وسكوت هادىء يسكن في الرب.

ان النفس التي لم تتذوق حلاوة السكوت الداخلي هي روح مضطربة تعكّر سكوت الآخرين. رأيت نفوساً عديدة في عمق الجحيم لأنها لم تحافظ على السكوت. هذا قالته لي بذاتها لمّا سألتها عن سبب شقائها. كانت تلك نفوس راهبات. يا إلهي… إنه لعذاب أليم أن نفكّر أنّه كان باستطاعتها، ليس فقط أن تكون في السماء، بل أن تصبح من عداد القديسين. رحمتك يا يسوع.

119- أرتجف عندما أفكر أن عليّ أن أؤدّي حساباً عن لساني. فاللسان يعطي الحياة ولكنه يتسبّب بالموت أيضاً. نقتل بلساننا أحياناً، نرتكب جريمة حقيقية. ولا نزال نعتبر ذلك شيئاً لا أهمية له.

لا أفهم حقاً مثل هذه الضمائر. عرفتُ شخصاً، أصابه مرض عضال، لمّا علم أنّه تُحدِّث باطلاً بحقّه، نزف دماً وفيراً وبكى دموعاً سخينة وكانت النتيجة محزنة. لم يصنع السيف ذلك بل اللسان. فيا يسوع الصامت إرحمنا.

120- لقد تهتُ في موضوع السكوت، لكن قصدت أن لا أتحدّث عنه بل بالأحرى عن علاقة حياة النفس بالله وتجاوبها مع النعمة. عندما تتطهّر نفس ويصبح الله في حالة ألفة معها، تبدأ باستجماع كل قواها الداخلية جادّة نحو الله. غير أنّ النفس لا تستطيع شيئاً وحدها. الله وحده يدبّر الأمور. فالنفس تعرف ذلك وتتذكّره ولكن هي تعرف جيداً أنها ما تزال في منفى وقد تأتي أيام مدلهمّة وممطرة، ولكن عليها أن تنظر إلى الأمور على غير ما كانت تنظر إليها حتى الآن. فلا تفتّش عن طمأنينة في سلام مزيّف بل تستعد للمعركة. وتدرك أنها في ميدان حرب، متنبّهة لكل شيء. وهذا موقف ملوكي. يتمحور همّها حول ما هو عظيم ومقدّس.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق