الدفتر الثاني

85- غايتي هي الله وسعادتي هي في إتمام إرادته

 

771- في ذلك الوقت بالذات، تستغرقُ النفس كليًّا بالله وتختبر سعادة أشبه بسعادة المختارين في السماء. ورغم أنّ المختارين في السماء يَرَوْنَ الله وجهاً إلى وجه وهم في منتهى السعادة، فمعرفتهم بالله هي غير معرفتي به. لقد أفهمني الله ذلك. فمعرفة الله العميقة تبدأ هنا على الأرض. وهي مرتبطة بالنعمة (المعطاة) ولكن ترتبط أيضاً إلى حدّ بعيد بأمانتنا إلى هذه النعمة.

إنّما لا تستطيع النفس التي أُعطِيَت نعمة الاتّحاد هذه التي لا سابقة لها، أن تقول إنّها ترى الله وجهاً إلى وجه. لأن هنا على الأرض، يوجد ستار رقيق جدًّا للإيمان، إنّما ذات رقّة شفّافة تمكّن النفس من القول إنها ترى الله نوعاً ما وتتحدّث إليه. فكأنّ النفس قد «تألَّهت». ويسمح الله للنفس أن تعلم كم هو يحبّها. وترى أنّ النفس تمتلئ بإعجاب مقدّس يثبّتها في تواضع عميق ويُشبعها من «لا وجودها» ومن ذهولها المقدّس. ويزداد اتّحاد الله بها وتنازله إليها بقدر ما تزداد تواضعاً.

وتبقى النفس متوارية وحواسها ساكنة إلى هذا الحين كما كانت في السابق. وفجأة تتعرّف إلى الله وتستغرق فيه وتدرك كل أعماق الواحد غير المدرك ويزداد شوقها إليه بقدر ما تزداد معرفتها به.

772- عظيم هو التبادل المشترك بين النفس والله. عندما النفس تغادر مخبأها، تتذوّق الحواس ما نَعِمَت به النفس من سعادة. رغم أنّ تلك الحالة هي نعمة عظيمة من لَدُنِ الله، فليست هي روحية صافية. لأنّ الحواس لم تشترك بها في بادئ الأمر. كلّ نعمة تُعطي النفس قوّة ومقدرة لتتحرّك، وشجاعة لتتحمّل الألم. تدرك النفس ما يطلبه الله إليها فتنفِّذ إرادته المقدّسة رغم كل العراقيل.

773- غير أنّ النفس لا تستطيع أن تتصرّف من تلقاء نفسها في هذه القضايا. عليها أن تتّبع نصائح وإرشادات معرّف وإلاّ تضلّ أو لا تجني أيّة فائدة.

774- يا يسوع، إنّي أعلمُ جيِّداً أنّ الألم، في الحياة الروحية هو قياس محبّة النفس لله، تماماً كما يفيدنا ميزان الحرارة عن جدّية المرض وارتفاع درجة الحمّى.

775- غايتي هي الله وسعادتي هي في إتمام إرادته، ولا شيء في العالم يقدر أن يعكّر سعادتي هذه، ولا سلطة ولا قوّة من أيّ نوع كانت.

776- زار الرب غرفتي وقال لي: «لن أترككِ، يا ابنتي، في هذه الجمعية لوقت طويل. أقول لك ذلك كي تكوني يقظة وتستفيدي من النِّعَم التي أهبكِ إيّاها».

777- 27 تشرين الثاني [1936].

كنتُ اليوم في السماء بالروح ورأيتُ الجمالات غير المدركة والسعادة التي تنتظرنا بعد الموت. رأيتُ كيف أنّ كلّ الخلائق تسبّح الله وتمجّده دون انقطاع. رأيتُ كم هي عظيمة السعادة مع الله وهو يوزّعها على خلائقه ويجعلهم سعداء. ثم يعود كلّ المديح والتسابيح المتدفّقة من هذه السعادة إلى نبعها. وتلِجُ الخلائق إلى أعماق الله وتتأمّل في حياته الداخلية، الله الآب والابن والروح القدس، الذي لن تدركه أبداً أو تسبرُهُ.

ولا يتغيّر نبع السعادة هذه في جوهره، إنّما يتجدّد دائماً فتفيض منه السعادة على كل الخلائق. أفهمُ الآن مار بولس الذي قال: «لم تَرَهُ عينٌ، ولم تسمع به أذنٌ ولم يخطر على بال أحد، ما يعدّه الله إلى من يحبُّهم».

778- وجعلني الله أفهمُ أنّه لا يوجد إلاّ شيء واحد ذا قيمة متناهية في عينيه، ألا وهو حبّ الله، الحبّ ثم الحب ثم الحب. ولا شيء يضاهي عملاً واحداً لحبّ الله الصافي. آه! يا لها من إنعامات لا تُدرك، يهبها الله إلى النفس التي تحبّه بإخلاص. آه! طوبى لتلك النفس التي قد سبق وتنعَّمَت هنا على الأرض بهذه الإنعامات الخاصّة، تلك التي تُعطى إلى النفوس الصغيرة والمتواضعة.

779- إنّ رؤية عظمة جلال الله التي تعمَّقتُ بفهمها والتي تعبُدُها الأرواح السماوية، كلٌّ حسب درجة النعمة والمراتب التي نُظِّمَت فيها، لم تصعق نفسي بالخوف أو بالرعب. كلاّ، بل امتلأت نفسي طمأنينة وحبًّا. وبقدر ما تزداد معرفتي بعظمة الله أنّ هو الذي هو، بقدر ذلك أزدادُ سعادة، وأطفحُ فرحاً لعظمته وأبتهجُ بأنّني صغيرة. ولأنّني صغيرة، فهو يحملني على ذراعيه ويضمّني إلى قلبه.

780- يا إلهي، كم أُشفِقُ على الأُناس الذين لا يؤمنون بالحياة الأبدية. وكم أصلّي من أجلهم كي يلفّهم هم أيضاً شعاع رحمة فيضمّهم الله إلى حضنه الأبوي.

781- أيّتها المحبّة، أيتها الملكة، المحبّة لا تعرف الخوف. هي تمرّ بين كل أجواق الملائكة التي تقف بخَفَرٍ أمام عرشه. لن تخاف أحداً. تصِلُ إلى الله وتستغرقُ فيه لأنه كنزها الوحيد. وليس للكاروبين الذي يحرسون الجنّة بسيوف ناريّة، سطانٌ عليها. يا محبّة الله النقيّة، كم أنت عظيمة وفريدة! آه! لو كانت النفوس تُدركُ قوَّتَكِ.

782- أنا اليوم ضعيفة جدًّا لا أستطيعُ حتى التأمّل في الكنيسة، لكن يجب أن أستريح يا يسوع. أنا أحبّك وأريدُ أن أعبدَكَ في ضعفي هذا بالذات، مستسلمةً كليًّا إلى إرادتك المقدّسة.

783- ينبغي أن أكون يقظة، لا سيّما اليوم، لأنّني قد أصبحتُ سريعة التأثّر من كل شيء. إنّ الأمور التي لا أُعيرُها اهتماماً، وأنا في كامل صحتي، تُزعجُني اليوم. يا يسوع، درعي وقوّتي، هبني نعمةً كي أخرجَ منتصرةً من هذه المعركة. يا يسوع، حوّلني إلى ذاتك بقوّة محبَّتِكَ حتى أُصبحَ جديرةً بالتبشير برحمتِكَ.

784- إنّي أشكرُ الله على مرضي وعلى اضطرابي الجسديّ، لأنّه يوفّر لي الوقت لأتحدّث مع الرب يسوع. إنّني أسعدُ في قضاء ساعات طويلة على أقدام الربّ الخفيّ وتمرُّ الساعات وكأنّها دقائق دون أن أشعر بها. أشعرُ بنارٍ تلتهِبُ في داخلي ولا أعرفُ حياةً سوى حياة التضحية المتدفقة من الحب الصافي.

785- 29 تشرين الثاني [1936].

علّمتني أمُّ الله كيف أتحضَّرُ لعيد الميلاد. رأيتُها اليوم، بدون الطفل يسوع، وقالت لي: «يا ابنتي، إسْعَيْ وراء الصمت والتواضع حتى يسكُنَ دائماً يسوع في قلبِكِ ويستريح. أُعبُديهِ في قلبِكِ ولا تتخلّي عن كيانِكِ الداخليّ. يا ابنتي، سأنالُ لكِ نعمة الحياة الداخلية التي ستُخوِّلُكِ أن تقومي بواجباتِكِ الخارجية بدقّة كاملة، دون أن تُهملي حياتِكِ الداخلية. ثابري على الثبات معه في قلبِكِ. فسيكون قوَّتَكِ. تعاملي مع الخلائق ولكن بما هو ضروريّ فقط، وبما تتطلَّبُهُ منه واجباتُكِ. أنتِ المقرّ الذي يرتضي به الله الحيّ. يسكنُ فيكِ دائماً بحبٍّ وابتهاج. وإنّ الوجود الحيّ لله الذي تخبِرينَهُ بوضوح وحماس متزايدين، سيُثَبِّتُكِ يا ابنتي في الأمور التي أخبرتُكِ إيّاها. حاولي أن تتصرّفي هكذا حتّى يوم عيد الميلاد، عندئدٍ سيعلِّمُكِ هو بذاتِهِ كيف تتصرّفين معه وتتّحدينَ بهِ».

786- 30 تشرين الثاني [1936].

هذا اليوم في صلاة المساء جاز نفسي ألمٌ غير عاديّ. أرى أنّ هذا العمل، كيفما نظرتُ إليه يفوقُ قواي. أنا طفلة صغيرة أمام هذه المهمّة الشاسعة، وقد باشرتُ للقيام بها فقط بأمرٍ واضح من الرب. وإنّ هذه النِّعَم الفائضة، هي من جهة أخرى، عبءٌ عليّ، وأكادُ لا أستطيعُ حملها. أرى تردُّد رئيساتي وكلّ أنواع شكوكهنّ، سبب تصرفهنّ المتخوّف نحوي. يا يسوع، أرى أنّ هذه النعم الوافرة بالذات يُمكنُ أن تصبح [مصدر] آلامي. وهذا هو الواقع. ليست هي فقط سبب آلامي، – ولكن قد تكون كما هي – علامة عمل الرب. أدركُ جيِّداً أنّه ما لم يُقَوِّ الله بذاته النفس، في هذه الصعوبات المتنوعة، لما استطاعت أن تسيطر على الوضع. فالله ذاته هو درعها.

بينما كنتُ أتابعُ صلاة المساء متأمّلة بهذا المزيج من الألم والنعمة، سمعتُ صوت السيدة العذراء: «إعلمي ابنتي، رغم أنّني قد رُفِعتُ إلى كرامة أمّ الله فقد جاز قلبي سبعة سيوفٍ من الألم. لا تحاولي أن تدافعي عن ذاتِكِ، تحمَّلي كلّ شيء بتواضع فالله نفسه سيحميكِ».

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق