الدفتر الخامس

128- فوستينا تحارب تجارب الشيطان بالصمت

1497- لمّا ذهبت فكريًا إلى الكنيسة، غرقتْ روحي في ظلمة أكثر كثافة. وسيطر عليّ يأس شامل. ثم سمعتُ صوت الشيطان. أنظري كيف أن يسوع يناقض نفسه في كل ما يقوله لك: «يقول لك أن تأسسي ديرًا ثم يرسل إليك مرضًا. يقول لك أن تسعي إلى إقامة عيد الرحمة هذا، بينما يرفض العالم كله هذا العيد. لماذا تُصلّي من أجل إقامة هذا العيد؟ ليس الوضع ملائمًا».
بقيت نفسي صامتة، وبفعل إرادة، ثابرتُ في الصلاة دون أن أدخل في جدل مع روح الظلمة. مع ذلك سيطر عليّ قرف غير عادي من الحياة. واضطررت أن أقوم بفعل إرادة جبّار لأوافق على متابعة الحياة. وسمعت مجددًا كلمات المجرّب: «أطلبي الموت لذاتك غدًا بعد المناولة المقدّسة. وسيستجيبك الله. لأنه سبق واستجابك مرات عديدة وأعطاك كل ما طلبته إليه». بقيتُ صامتة وبفعل إرادة بدأت الصلاة، أو بالأحرى استسلمت لله طالبة إليه داخليًا أن لا يلهمني في هذا الوقت. كانت الساعة الحادية عشرة ليلًا والسكون سائد حولي. كانت الراهبات نائمات في غرفهنّ، ونفسي تعارك وحدها بجهد مضنك.
وتابع المجرّب حديثه: «لماذا تقلقين لمصير النفوس الآخرين؟ عليك أن تصلي لأجل ذاتك فقط. أما الخطأة فسيرتدون دون صلاتك. أعطيك نصيحة صغيرة تتعلّق بها كل سعادتك: لا تتحدّثي أبدًا عن رحمة الله، بالأخصّ، لا تشجّعي الخطأة على الثقة بها لأن يستحقون قصاصًا عادلًا. هذا أمر آخر على ذات أهمية. لا تخبري معرّفيك لاسيّما هذا المعرّف فوق العادة والكاهن في فلينيوس عما كل ما يجول في نفسك. إني أعرفهم وأعرف من هم وأريد أن أحذرك منهم. يكفي ان تعيشي مثل باقي الراهبات كيف تكوني راهبة فاضلة. لماذا تعرّضين ذاتك إلى صعوبات جمّة؟».
1498- حافظت على الصمت، وبفعل إرادة بقيتُ مع الله رغم أن تأوّها إنطلق من قلبي. أخيرًا إبتعد المجرّب، وفجأة سيطر عليّ النوم وأنا منهارة القوى. في الصباح التالي، بعد تقبّل المناولة المقدّسة، ذهبت إلى غرفتي وخرّيت ساجدة، وجدّدت فعل إرادتي لأخضع في كل شيء لإرادة الله. «يا يسوع، قوّني في المعركة فلتتحقّق فيّ ارادتك الكلّي قدسها. إن نفسي هي هائمة بإرادتك هذه الكلّي قدسها وحدها».
1499- حينئذ رأيت يسوع وقال لي: «أنا سعيد بما تفعلين. وتستطيعين أن تكوني بسلام إذا صنعتِ دائمًا ما بوسعك في سبيل عمل الرحمة. كوني صريحة، بقدر مستطاعك، مع معرّفك. لم يربح إبليس شيئًا في تجريبك لأنك لم تبادليه الحديث. تابعي العمل بهذا الشكل. لقد مجّدتيني اليوم كثيرًا لأنكِ جاهدتِ بأمانة. فليكن ثابتًا ومحفورًا في قلبك إنني سأكون دائمًا معكِ حتى ولو لم تشعري بحضوري أثناء المعركة».
1500- نقلني اليوم حبّ الله إلى عالم آخر. لقد إستغرقتُ كليًا بالحبّ. إنني أحبّ وأشعر أنني أُحَبّ وأختبر ذلك بملء وعيي. إن نفسي هي غارقة في الله متأكدة من عظمته تعالى ومن حقارة ذاتها. وتتضاعف سعادتي من خلال هذه المعرفة. هذا الوعي هو في غاية الحيويّة في نفسي وغاية القدرة وفي غاية العذوبة في الوقت نفسه.
1501- +أما الآن وقد أخذ يصعب عليّ النوم لأن آلامي لا تتيح لي ذلك، أزور كل الكنائس والمعابد وأقوم بفعل عبادة، ولو لوقت قصير، أمام القربان المقدس. ولمّا أرجع إلى كنيستي، أصلّي حينئذٍ على نيّة بعض الكهنة الذين يُعلنون ويمجّدون الرحمة الإلهية. وأصلّي أيضًا من أجل نوايا الأب الأقدس ومن أجل الرحمة للخطأة… هكذا تمر ليالي.
1502- 20 كانون الثاني 1938. لا أتذلّل أمام أحد لأنني لا أطيق تحمّل الأطراء. ليس التواضع إلّا الحقيقة. فلا تملّق في التواضع الحقيقي. بينما أعتبر ذاتي أكثر الراهبات ضعفًا في الدير، فإنني من جهة أخرى، أفخر أن أكون عروسة المسيح. لا يهمّني أن أسمع الناس أحيانًا يقولون عنّي إنني متكبرة، لأنني أعلم أن الآراء البشرية لا تميّز دوافع أعمالنا.
1503- لمّا باشرت في بدء حياتي الرهبانية، ثمّ في المبتديّة، أتمرّس خاصة على التواضع، لم أكتفِ بالإذلال الذي أرسله الله لي، لذا، بغيرة فائقة، رحت أفتش عن المزيد منها. فكنت غالبًا أصوّر ذاتي أمام رئيساتي غير ما كنت عليه بالحقيقة. كنت أتحدّث عن بؤس لا علم لي به. ولكن بعد وقت قليل علّمني يسوع أن التواضع يكمُن في الحقيقة. ومذّاك الحين، تبدلت أفكاري، تابعة بأمانة إرشاد يسوع. وأدركتُ أن يسوع لن يسمح للنفس أن تضل إذا ما كانت معه.
1504-  + يا رب، أنت تعلم أنني منذ حداثتي كنتُ أبحث عن إرادتك، وكنتُ أحاول بعد التأكّد منها أن أحقّقها. لقد تعوّد قلبي على إلهامات الروح القدس الذي كنتُ له أمينة. في غمرة الضجيج كنتُ أسمع دائمًا صوت الله. وكنت أدرك دائمًا ما يجول في داخلي.
1505- أجاهد للقداسة لأنني بذلك سأكون مفيدة للكنيسة. أثابر في الجهد لممارسة الفضيلة. أحاول أن أتبع يسوع بأمانة. وأودعت كل هذه الفضائل اليوميّة المتتالية- الخفية، الصامتة، التي تكاد لا تدرك، ولكن متمّمة بحبّ كبير- في كنز كنيسة الله للمنفعة العامّة للنفوس. أشعر في داخلي وكأنني مسؤولة عن النفوس. أعرف جيدًا أنني لا أعيش لذاتي وحدي، بل للكنيسة جمعاء.
1506- +أيها الإله غير المدرك، يذوب قلبي فرحًا لأنك أتحتَ لي الولوج إلى أسرار رحمتك! يبدأ كل شيء وينتهي برحمتك.
1507- تنبثق كل النعم من الرحمة وستفيض الساعة الأخيرة بالرحمة لنا. لا ندع أحدًا يشكّ بصلاح الله. حتى ولو كانت خطايا الإنسان سوداء كالليل، فإن رحمة الله هي أقوى من حقارتنا. شيء واحد ضروري هو أن يفتح الخاطىء قلبه إلى نعمة الله الرحومة، والله يتمّم الباقي. الويل للنفس التي تغلق الباب لرحمة الله حتى في الساعة الأخيرة. إن مثل هذه النفس أغرقت يسوع في الحزن المُميت في بستان الزيتون. لقد فاضت الرحمة الإلهية بالواقع من قلبه الكلّي الرأفة.
1508- 21 كانون الثاني 1938. يا يسوع، بالحقيقة كم هو مخيف أن أتألم، إن لم يكن لأجلك. ولكن هو أنت يا يسوع الممدّد على الصليب الذي تقوّيني وتبقى قرب النفس المتألّمة. يتخلّى البشر عن الإنسان في ألمه، أما أنت يا رب، فإنك أمين.
1509- عندما نكون في حالة تمكّننا من التجول والعمل، تسير الأمور على ما يرام. ولكن عندما نُصاب بمرض أو يفتقدنا الله بإحدى المصائب، كأيوب في العهد القديم، فنفقد أصحابنا حولنا، ولا يبقى منهم إلا القليل، الذين يُعيرون لآلامنا بعض الإهتمام. ولكن إذا طال المرض فيبدأ هؤلاء الأصدقاء الأوفياء بمغادرتنا شيئًا فشيئًا. فتتناقص زياراتهم لنا وغالبًا ما تُؤلمنا فبدل من أن يشجّعونا، يبادروننا بالتوبيخ على الأمور التي تتسبّب لنا بكثير من الألم. ونصبح وحدنا مثل أيوب، ولكن لحسن الحظ، لسنا بوحدنا لأن يسوع في القربان هو معنا.
بعد أن تذوّقت الآلام التي ذكرتها أعلاه وأمضيت الليلة بكاملها بالمرارة، كان عليّ في صباح اليوم التالي، عندما حمل لي الكاهن [الأب تيودور] المناولة المقدّسة أن أراقب ذاتي بجهد كي لا أصرخ بأعلى صوتي: «أهلا بك أيها الصديق الأمين». تعطيني المناولة المقدّسة القوّة للألم والجهاد. أريد أن أتحدّث عن أمر آخر اختبرته: عندما لا يعطينا الله لا الموت ولا الصحّة، وعندما يطول [ذلك] لسنين عديدة يعتاد الناس على هذا الوضع ويعتبروننا أصحّاء. فتبدأ حينئذ سلسلة طويلة من الألم. ويعلم الله وحده كم تتحمّل النفس من تضحيات.
1510- ذات مساء كنتُ تعبة للغاية واحترتُ كيف أصل إلى غرفتي. إلتقيتُ بالأخت المساعدة [الأخت سيرافينا] وكانت تطلب إلى إحدى راهبات الفريق الأوّل أن تذهب إلى البوابة للقيام بعمل ما. ولكن لمّا رأتني قالت لها: «لا حاجة أن تذهبي أنتِ يا أختي، بل ستذهب الأخت فوستينا لأن المطر غزير». أجبتها: «لا بأس». وذهبت ونفّذت أمرها. ولكن الله وحده يعلم ما قاسيت. هذا نموذج واحد عن العديد من الحالات. يبدو أحيانًا أن الراهبة من الفريق الثاني هي من حجارة. غير أنها هي أيضًا كائن بشري ولها قلب وشعور.
1511- في مثل هذا الوقت يأتي الله ذاته لمساعدتي وإلّا إستحال عليّ أن أحمل الصلبان التي لم أبدأ بعد الكتابة عنها ولا أقصد أن أكتب عنها الآن. ولكن عندما أشعر بالإلهام للقيام بهذا العمل فسأكتب عنها.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق