76- إنّ قوَّتكِ هي في البرشانة فهي ستحميكِ
608- 2 شباط [1936]. في الصباح عندما يوقظني الجرس، يسيطر عليّ الخمول الذي لا أستطيع نفضه عنّي، فأرمي بنفسي في الماء الباردة وبعد دقيقتين يغادرني النعاس. عندما آتي إلى التأمل، يتغلغل في رأسي حشد من الأفكار السخيفة، بحيث أنني أضطّر أن أناضل طوال وقت التأمل. وكذلك الأمر وقت الصلاة. ولكن عندما يبدأ القداس كان قلبي يمتلئ بفرح وسكون عجيبين. في هذا الوقت بالذات أرى سيدتنا مع الطفل يسوع كما أرى الرجل الشيخ القديس [مار يوسف] واقفاً وراءهما. وقالت لي الأم الكليّة القداسة: «خذي أعزّ كنزي» وأعطتني الطفل يسوع. لمّا أخذتُ الطفل بين ذراعيّ، اختفت العذراء وكذلك مار يوسف وتُرِكْتُ وحدي مع الطفل يسوع.
609- قلتُ له: «إنني أدرِكُ أنك سيدي وخالقي، رغم أنك صغير جدًّا». فمدّ يسوع يديه الصغيرتين نحوي ونظر إليّ مبتسماً. فامتلأت روحي بفرح لا شبيه له. ولمّا جاء وقت المناولة اختفى يسوع فجأة. ذهبتُ مع بقيّة الراهبات إلى المائدة المقدسة بتأثّر عميق وبعد الناولة سمعتُ هذه الكلمات في نفسي: «أنا في قلبِكِ، أنا الذي أخذتِهِ بين ذراعيكِ» توسَّلْتُ حينئذ إلى يسوع لأجل إحدى النفوس [الأب سوبوكو] سائلة الرب أن يعطيها نعمة الجهاد وأن يُبعد عنه هذه المشقّة «سيكون حسب قلبِكِ ولكن دون أن ينقص أجرُهُ». تملّك الفرح نفسي لأنّ الله هو كثير الرحمة والجودة. إنّ الله يهبُ كل ما نطلبه إليه بثقة.
610- بعد كل محادثة مع يسوع تتقوّى نفسي فوق العادة وتسود في داخلي طمأنينة عميقة وتشجّعني كي لا أخاف شيئاً في العالم سوى إغاظة يسوع.
611- يا يسوع، أتوسّل إليك، بحقّ جودة قلبك الكلي العذوبة، أن تُخمِدَ غضبك وأن تُرِيَنا رحمتك. لتكن جراحاتك درعاً لنا ضدّ عدالة أبيك. لقد أدركتُكَ، يا الله، كينبوع رحمة تُحيي وتنعش كل نفس. آه! كم هي كبيرة رحمة الرب فهي تفوق كل صفاته. الرحمة هي أكبر صفات الله. كل ما يحيط به يحدّثني عنها. الرحمة هي حياة النفوس. وأنّ حنانه لا ينضب. أيها الرب، أنظر إلينا وعاملنا حسب مراحمك التي لا تُحصى، حسب رحمتك الكبيرة.
612- ذات مرة، اعتراني شكّ فيما إذا كنتُ أغظتُ الله أم لا، بما حدث لديّ. ولمّا لم أستطع إبعاد هذا الشك، قرّرتُ أن لا أتناول دون اعتراف. غير أنني قمتُ حالاّ بفعل توبة، كما اعتدْتُ أن أسأل المغفرة عن هفوات طفيفة. طوال الأيام التي لم أتناول فيها القربان المقدس لم أشعر بحضور الله، ممّا تسبّب لي بألم لا يوصف. غير أنني تقبَّلتُهُ كعقاب للخطيئة. وفي وقت الاعتراف، وُبِّخْتُ على عدم اقترابي من المناولة المقدسة لأنّ ما حصل لي لم يكن عائقاً لتقبّل القربان. تناولتُ بعد الاعتراف ورأيتُ الرب يسوع الذي قال لي: «اعلمي يا ابنتي أنّك أحزنتني بعدم اتِّحادِكِ بي في المناولة المقدسة أكثر من ارتكابِكِ الهفوات الصغيرة».
613- ذات يوم رأيتُ في كنيسة صغيرة ستُّ راهبات يتناولنَ القربان المقدس على يد معرِّفنا [الأب سوبوكو] الذي كان يرتدي درعاً كنسيًّا وبطرشيلاً. لم تكن الكنيسة مزيّنة ولم يكن فيها مساجد. بعد المناولة المقدسة رأيتُ الرب يسوع، كما هو مصوّر في الرسم. ناديتُهُ وهو يبتعد عني: «كيف تمرّ دون أن تقول لي شيئاً يا رب، بدونك لا أصنعُ شيئاً. يجب أن تبقى معي وتباركني وتبارك أيضاً جماعتي هذه ووطني». صنع يسوع إشارة الصليب وقال: «لا تخافي شيئاً فأنا مقيمٌ دائماً معكِ».
614- في اليومين الأخيرين قبل الصوم أُقيمَت كل يوم ساعة سجود تحضيرية مع البنات الداخليّات. طوال الساعتين رأيتُ الرب يسوع كما كان بعد الجلد. كان الألم شديداً في نفسي حتى أنّي شعرتُ في جسدي وفي روحي نفس تلك الآلام.
615- أول آذار 1936. شعرتُ اليوم طوال القداس بقوة غريبة تلحُّ عليّ بأن أبدأ تحقيق رغبات الله. كان إدراكي للأمور التي طلبها إليّ الرب في غاية الوضوح، حتى إذا ادّعَيتُ أنني لم أفهمها أكون كاذبة. لأن ما طلبه الرب كان دقيقاً وواضحاً ولم يعدْ لديّ أقل أثر شك حولها. تأكَّدتُ أنني أذهب إلى أبعد نكران الجميل، إذا تماطلتُ في فهم ما يريد أن يحقِّقهُ الله لمجده ولخير العديد من النفوس، وهو يستعملني كوسيلة حقيرة يحقّق من خلالها تصاميمه الأزلية للرحمة. كم ستكون نفسي عقوق إذا تماديتُ في معارضة إرادة الله. لا شيء يوقفني بعد اليوم، لا الاضطهاد والألم والتّهكم والتهديد، والوساطات والجوع والبرد والصداقات والعداوات والأصدقاء والأعداء، سواء أكانت الأشياء التي أختبرُها اليوم أو التي ستأتي في المستقبل، حتى حقد جهنّم، لا شيء يُثنيني عن عمل إرادة الله.
لا أتّكل على قوّتي الذاتية بل على كلِّيّ قدرته، فكما أعطاني نعمة معرفة إرادته، سيعطيني أيضاً النعمة لإتمامها. لا أستطيع أن لا أذكر كم تُعارِض طبيعتي الضعيفة هذه الأشياء مُبدية رغباتها الخاصة، مما يتسبّب في داخلي بصراع شديد شبيه بصراع يسوع في بستان الزيتون. وهكذا صرختُ أنا أيضاً إلى الله الآب الأزلي: «إن كان يُستطاع فأبعد عني هذه الكأس ولكن لتكن مشيئتك يا رب لا مشيئتي، لتكن مشيئتك». لم يعد سرًّا عليّ ما سوف أتحمّله ولكن أقبلُ بملء معرفتي كلّ ما ترسلُهُ لي يا رب. إنني أثق بك، أيها الإله الرحوم سأكون أوّل من يعبّر لك عن هذه الثقة التي تطلبها مني. أيتها الحقيقة الأزلية، ساعديني ونوّري طريق حياتي وأعطيني أن تتحقّق فيّ إرادتك.
يا إلهي، لا أطلب شيئاً سوى إتمام إرادتك. فلا همّ إن كانت سهلة أم صعبة. أشعرُ بقوة خارقة العادة تدفعُ بي إلى التحرّك. شيء واحد يوفقني وهو الطاعة المقدسة. يا يسوع، إنك تحثّني بيد وتشدّني إلى الوراء باليد الثانية. في هذا الأمر أيضاً فلتكن مشيئتك.
عشتُ في هذه الحالة طوال أيام عديدة دون استراحة. ضعُفَتْ قواي الجسدية ورغم أنني لم أَبُحْ بشيء إلى أحد، فقد تنبّهت الأم الرئيسة [بورجيا] إلى ألمي ولاحظت أنّ مظهري تغيّر وأنّ لوني أصبح شاحباً. طلَبَتْ إليّ أن أنام قبل المعتاد وأن أتأخر في الرقاد. وحمَلَتْ لي كأس حليب ساخن عند المساء. حاوَلَتْ أن تساعدني بقلبها الأمومي والمليء عطفاً. ولكن الأشياء الخارجية لا تؤثّر على الآلام الروحية ولا تنفعها بشيء. من كرسيّ الاعتراف استمدَّيْتُ قوّتي والتعزية بمعرفتي أنه لن يطول الوقت قبل أن ابدأ العمل.
616- يوم الخميس، لمّا ذهبتُ إلى غرفتي رأيتُ البرشانة المقدسة في تألّق ساطع، وسمعتُ صوتاً بدا وكأنه آتٍ من فوق البرشانة: «إنّ قوَّتكِ هي في البرشانة فهي ستحميكِ». وتوارت الرؤية بعد هذه الكلمات. ولكن قوة غريبة خالجت نفسي ونور عجيب أوضح لي أين تكمن محبتنا لله، لا سّيما في صنع إرادته.
617- أيها الثالوث القدوس، الإله الأزلي أريدُ أن ألمع في تاج رحمتك مثل لؤلؤة صغيرة تستمدّ جمالها من شعاع نورك ومن رحمتك التي لا تُسبَر. كل ما هو جميل في نفسي هو لك، أنا لستُ شيئاً، بحدّ ذاتي.
618- في بدء الصوم، طلبتُ إلى معرّفي أن أقوم ببعض الإماتات في هذا الوقت. قيل لي أن لا أخفّف من طعامي ولكن أن أتأمّل، وقت الأكل، بيسوع المسيح على الصليب وقد قَبِلَ الخلّ والمرّ. في ذلك تكمُنُ إماتتي. لم أُدرك أنّ ذلك سيفيدُ نفسي. كانت الإفادة في تأمّلي المتواصل بالآلام ليسوع المحزنة، ممّا جعلني وقت الأكل أفكّر، لا بما أتناول من الطعام، بل بموت الرب.
619- في بدء الصوم، طلبتُ أيضاً أن أبدّل موضوع فحص الضمير فقيل لي أن أصنع كل شيء بنيّة صافية تكفيراً عن الخطأة المساكين. هذا ما جعلني في اتّحاد متواصل مع الله وأنّ هذه النية أتقَنَتْ أعمالي لأنّ كل ما أصنعه يعود بالمنفعة إلى النفوس الخالدة. تصبح كلّ المشقّات والتعب كلا شيء لمّا أفكّر أنها تصالح النفوس مع الله.
620- مريم هي معلّمتي التي ترشدني دائماً كيف أعيش لله. تتنقّى روحي من لطفكِ وتواضعكِ يا مريم.
621- ذات مرة، لمّا مررتُ في الكنيسة أتأمّل لمدّة خمس دقائق وأصلي على نية إحدى النفوس، اتضح لي أنّ الله لا يقبل دائماً تضرعاتنا من أجل النفس التي نفكّر بها، بل يوجّهها إلى نفوس أخرى. لذا ورغم أنّ النفوس المطهريّة التي نريدُ مساعدتها لا تستفيد فإنّ صلاتنا لا تضيع.
622- اتّحاد النفس الودّي مع الله. يقترب الله من النفس بطريقة خاصة يفهمها هو وحده وتفهمها النفس. لا أحد يدرك هذا الاتّحاد السري. يكمن الحب في هذا الاتّحاد والحب وحده يُكمّل كل شيء. يُعطي يسوع ذاته للنفس بطريقة عذبة ولطيفة ويضع سلامه في أعماقها. يغدق على النفس نعماً عديدة ويمكّنها من المشاركة في أفكاره الأزلية. ويكشف لها غالباً عن تصاميمه الإلهية.
623- قال لي الأب إندراز إنّه لشيء رائع أن نجدَ في كنيسة الله مجموعة نفوس تطلب رحمته لأننا كلنا، في الواقع بحاجة إلى رحمته. بعد هذه الكلمات ملأ نفسي نور غير عادي. آه! كم هو صالح الرب.