الدفتر الأول

23- (102-98) امتحان الامتحانات القديسة فوستينا تشعر باليأس من إهمال الله التام لها

امتحان الامتحانات
إهمال تام – اليأس

98- لمّا تخرج النفس منتصرة من التجارب السابقة، فقد تتعثّر هنا وهناك، ولكن ستتابع الجهاد بضراوة وتواضع متّكلة على الله: نجّني، أكاد أهلك. ولن تفقد استطاعتها على متابعة الجهاد.

غير أن النفس، في هذه النقطة بالذات، هي غارقة في ليل مخيف. فلا ترى في داخلها إلا الخطيئة فترتعب. ترى ذاتها، وقد تخلّى عنها الله، وكأنها أصبحت موضوع بغضه، فهي على بُعد باعٍ من اليأس. فتعمل مستطاعها لتحمي ذاتها. تحاول إحياء ثقتها. ولكن تتحوّل الصلاة إلى عذاب أكثر شدّة فيها وكأن هذه الصلاة بالذات تُثير أكثر فأكثر غضب الله. وتجد نفسها متأرجحة على رأس قمّة جبل عالٍ على حافة الهوّة.

تميل النفس نحو الله ولكن تشعر أنها منبوذة. كل آلام وعذابات العالم هي لا شيء بالمقارنة مع هذا الشعور المسيطر عليها وهو أن الله قد أهملها. فلا يستطيع أحد أن يُطمئنها وتجدُ نفسها في عزلة تامّة ولا من يحميها. ترفع عينها إلى السماء ولكن على يقين أن السماء ليست لها – لقد فقدت كل شيء. وتزداد غوصاً من ظلمة إلى ظلمة ويبدو لها وكأنها فقدت إلى الأبد الله الذي تعوّدت الشغف به. هذه الفكرة هي مصدر عذاب فوق كل وصف ولكن لا ترتضي به النفس، فتحاول أن ترفع نظرها نحو السماء ولكن عبثّا. ممّا يزيد الألم حدة.

إذا أراد الله أن يبقي النفس في ظلمة كهذه فلا يستطيع أحد ان ينيرها، فتختبر آنذاك بشكل حادّ ومخيف، إهمال الله لها، ويتصاعد من قبلها أنّات أليمة، لا يستطيع كاهن، لشدّتها، أن يفهمها، ما لم يكن قد مرّ بذاته في مثل هذه التجارب. في وسط ذلك يزيد الروح الشرير في آلام النفس، ساخرًا منها: «أتثابرين في أمانتك؟ هذه هي مكافأتك، أنتِ في قبضتي». لكن لإبليس تأثير على النفس لا يتجاوز ما سمح به الله له. ويعرف الله كم يمكننا أن نتحمّل. يقول إبليس: «ماذا جَنَيتِ من تضحياتك ومن أمانتك للقوانين؟ وما نفع تلك الجهود؟ لقد نبذك الله».

وتتحوّل كلمة «منبوذ» إلى نار تلج كل عرف حتى تبلغ نخاع العظم، وتنفذ إلى كل كيانها ويبلغ التعذيب بالنار ذروته. فتتوقّف النفس عن طلب المساعدة في أي مكان. تتقوقع في ذاتها ويُعمى بصرها عن كل شيء وكأنها ارتضت بعذاب متأتٍ من كونها منبوذة. هذا هو الوقت الذي لا كلام لوصفه. هذا هو نزاع النفس.

99- لمّا يقترب، لأول مرّة، مثل هذا الوقت كانت فضيلة الطاعة المقدّسة تخطفني بعيدًا عنه. ارتعدت مديرة المبتدئات من منظري فأرسلتني إلى الإعتراف ولكن المعرّف لم يفهمني فلم أشعر بأي ارتياح. يا يسوع أعطنا كهنة مطّلعين.

لمّا أخبرت الكاهن، كنت أعاني عذابات جهنمية فأجابني أنه غير قلق على نفسي لأنه يرى فيها نعمة كبيرة من لدن الله. فلم أفهم شيئاً من هذا ولم تخرق نفسي أية ومضة نور.

100- بدأت قواي الجسدية تنهار ولم يعد باستطاعتي القيام بواجباتي، كما لم يعد باستطاعتي اخفاء عذابي. رغم أنني لم أنطق بكلمة حول هذا الموضوع فقد خانني مظهر وجهي. قالت لي الأم الرئيسة إن الراهبات أتين إليها ليخبرنها أن الشفقة تأخذهنّ عندما ينظرنَ إليّ في الكنيسة لأن منظري مخيف. علاوة على ذلك ورغم كل الجهود المبذولة لم تستطيع النفس إخفاء مثل هذا العذاب.

101- يا يسوع، أنت وحدك تعلم كم تشتاق النفس إلى الله، رغم غرقها في الظلمة ونحيبها في وسط هذه العذابات، كما تشتاق الشفاه العطشى إلى المياه. فهي تذبل وتموت. تموت دون ميتة أي لا تستطيع أن تموت. ولا تبلغ كل جهودها إلى اللاشيء. فهي في قبضة يد قويّة. أما الآن فالناس هم تحت أمرة سلطان عادل. تتوقّف كل التجارب الخارجية ويسكت كل ما هو حولها كإنسان منازع يفقد الاتصال بكل ما يحيط به. إن نفس الإنسان بكلّيتها هي في يد الله العادل، الله الثالوث القدوس، مرميّة في الأبديّة اللامتناهية. هذه هي ذروة الوقت والله وحده يستطيع أن يمتحن نفساً بهذا الشكل لأنّه وحده يعرف ما تستطيع النفس أن تتحمّل.

عندما تتشبّع النفس من تلك النار الجهنمية، تبدو كأنها رُميت، ورأسها أولاً، في يأس كبير. اختبرتْ نفسي هذا الوقت لمّا كنتُ لوحدي في غرفتي، لمّا بدأتْ نفسي تغرق في اليأس، شعرت باقتراب الآخرة. ولكن قبضت على صليبي الصغير وشددته بين يديّ وشعرت أن جسمي قد انفصل عن نفسي. رغم أنني أردت أن أذهب إلى عند رئيساتي، فلم يعد لدي القوى الجسدية للقيام بذلك. لفظتُ كلماتي الأخيرة: «إني أثق برحمتك». وبدا لي كأنني هيّجت أكثر فأكثر غضب الله.

والآن غرقتُ في اليأس ولم يتصاعد منّي إلا نحيب ألم صافٍ ينسلخ من نفسي من وقت إلى آخر. النفس تنازع وبدا لي أنني سأبقى على هذا الحال، لأنه لم يعد لديّ القوّة لأتخلّص منه. كلّما تذكرت الله تفجّر محيط شاسع من الألم. ورغم ذلك يبقى شيء في داخل النفس يشدّها إلى الله. غير أنها تزداد عذاباً بسبب ذلك – كما يبدو لها. إن ذكرى الحبّ الذي يغمرها الله به تتحوّل إلى عذاب من نوع آخر. يخرقها نظره ويُشعل كل ما في داخل النفس.

102- بعد وقت قليل دخلتْ إحدى الراهبات غرفتي فوجدتني على حافة الموت. فارتعبت وذهبت إلى مديرة المبتدئات التي أمرتني باسم الطاعة المقدّسة أن أنهض عن الأرض. عادت إليّ قواي فجأة ووقفتُ مرتجفة. أدركتْ حالاً المديرة حالة نفسي. حدّثتني عن رحمة الله الخفيّة قائلة: «لا تقلقي من شيء يا أختي. أمرتك ذلك عملاً بفضيلة الطاعة» ثم قالت لي: «أرى الآن أن الله يدعوك إلى رتبة عالية من القداسة. يريد الله أن يجذبك نحوه لأنه سمح أن تحلّ بك باكراً هذه الأحداث. إبقي أمينة إلى الله، يا أختي، لأن هذه هي علامة أنه يحفظ لك مكاناً عالياً في السماء».

غير أني لم أفهم شيئاً من هذه الكلمات. لمّا ذهبتُ إلى الكنيسة شعرتُ أن نفسي قد تحررّت من كل شيء وكأنني رجعت من بين يدي الله، وأدركت مناعة نفسي وشعرت كأنني طفلة صغيرة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق